تحت اشراف فضيلة العلامة الشيخ فراج يعقوب حفظه الله
recent

جديد

recent
random
جاري التحميل ...

مصباح الأرواح في سلوك طريق الفتاح

رسالة (مصباح الأرواح في سلوك طريق الفتاح)
لسيدي الشيخ أحمد أبي الوفاء الشرقاوي رضى الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
(مقدمة الرسالة)
الحمد لله الذي فتح أبواب شهوده لمن أقبل عليه، ومنح بإسعاده وجوده من أحسن المسير إليه، (أحمده) سبحانه وتعالى طهَّر أرواح المريدين لحضرته العلية، وأروى سرائر الطالبين بكؤس مشاهدتهم لذاته القدسية، والصلاة والسلام على مظهر تجلياته ومجلى أنوار حضراته، وعلى جميع الآل والأصحاب وسائر الأتباع والأحباب.
(أما بعد) فإن من أجلِّ نعم الله تعالى على عباده هدايتهم إلى ما يقرِّبهم إليه سبحانه وتعالى، وتوفيقهم إلى ما يرفع عن بصائرهم أستار الحجب المانعة لهم من مراقبة كبريائه وجلاله، ومشاهدة أنوار بهائه وجماله، التي هي غاية مراقي السعادة، ومنتهى مدارج السيادة.
وقد تفضل سبحانه وتعالى: فجعل في كل عصر أئمة يدعون الناس إلى ذلك، ويوضحون لهم فيه السُّبل والمسالك، ويقومون فيهم بالحث على الإقبال عليه سبحانه وتعالى، ويستفزون قلوبهم إلى التوجه إليه، والبعد عن كل ما يوجب الحرمان منه عز وجل، ويحبِّبُونهم في الله ورسوله ويشوقونهم إلى التمسك بعروة دينه القويم، والاعتصام بحبل صراطه المستقيم، حتى تنصبغ قلوب المسترشدين بهم بصبغة الله جل شأنه، وتنطبع أرواحهم على محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فتظفر بكمال إيمانها، وترتع في رياض عزِّها وإحسانها، وتفوز في الدنيا بتمام السيادة وفي الآخره بختام السعادة، وذلك هو الفوز المبين.
ولم يزل هؤلاء الأئمة ولن يزالوا - إن شاء الله تعالى - شموسًا تسطع منهم أشعة الهدى، وبحارًا تجري منهم في القلوب أنهار الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وأسبابًا يتوصل بهم إلى رفع الحجب المانعة عن اجتلاء أسرار الحق وشهود أنواره، وأسودًا ضارية في محاربة القواطع، ومكافحة الموانع القاطعة لطريق الوصول إلى الله عز وجل.
وقد كان والدنا الإمام الداعي إلى الله تعالى الشيخ أحمد بن شرقاوي من أشد الناس غيرة على هذه الطريقة، وأحرصهم على إعلاء شأنها، وأقواهم عزيمة وأعلاهم همة في مدافعة كل يعدو عليها، وقد أعانه الله تعالى وأمده، ونصره في ذلك وأيده، فقد مضى على الطريقة القويمة مدة من الزمن تصدعت فيها قوائمها، وتهدمت فيها أركانها ودعائمها، وتلاشت بين الناس حقيقتها، ولم يبق إلا أطلال من قوالب ألفاظها تدور على ألسنة المنتسبين إليها وليست من حقيقة الطريق في شيء، وقد جاهد فيها رضي الله عنه حتى رفع من هامتها ما خفضه الباطل، وأحيى منها ما أماته الفساد، ولم يزل كذلك حتى لبى نداء الرفيق الأعلى وانتقل من دار الفناء الى دار البقاء.

الأمر بالدعوة والإرشاد:
وكان رضى الله تعالى عنه قد أذن لي بالقيام بواجب إرشاد العباد قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بنحو شهر، ثم كرر الأذن لىَ مرة أخرى بعد أيام مضت من ذلك، ولم يكن إذنه لي على ما اعتيد في الإجازات من الإعلام والإشهار، وقد أنعم الله تعالى على كثير من الناس بالرغبة فى التمسك بهذا الطريق، والانتظام فى عقد هذا الفريق، وله سبحانه مزيد الحمد والمنة.
و حسّن بعض منهم الظن بهذا الفقير فطلبوا مني إرشادهم وإني لأعلم من نفسي ما الله به أعلم من سيء أحوال وأفعال، وكثير تقصير وعيوب وأوحال، ورأيت أن الفساد قد مازج القلوب، وسرت فى أرواح الطالبين الغفلة عن علام الغيوب، جل جلاله، وتخلل في نفوسهم مرض الاعراض عن الطريق إلى الله جل شأنه، فتجرعوا كؤوس حرمانهم، وانهمكوا في البعد عن جنابه الأقدس بجميع جوارحهم وأركانهم، حتى صارت جميع الحواس حُجُبًا قاطعة عن الله، موجبة لقطيعة العبد عن شهود مولاه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد عمت على الناس هذه المصائب والبلايا، وعظمت عليهم هذه الخطوب والرزايا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فكيف يدعو منادي الهدى على منار الفساد، أم كيف ينادي منادي التقريب على منار الحرمان والإبعاد، فكنت أجيبهم بما أنا عليه، معتذرًا لهم بضعفي عن تحمل أثقال هذا الأمر الخطير، ودللتهم على من هو أولى مني بهذا الأمر و أجدر، وأرشدتهم إلى من هو أقوى عليه وأقدر، ولكن ما زال الكثيرون يلحُّون علىّ في الطلب، ورأيت من خواص الإخوان استحسان إجابتهم، فكنت أعجب لطلب الناس مني ذلك مع عدم علمهم بأمر الأستاذ الوالد لي بالإرشاد، وأحمد الله سبحانه وتعالى على ستره عنهم لأني كنت استنسم منه نسمات الراحة والارتياح، وأستروح ببعدي عن تلك الأخطار أرواح السرور والانشراح.
لكن لما رأيت أن الامتناع عن إجابتهم ربما كان قطعًا لطريق الحق سبحانه وتعالى، وخشيت أن يكون ذلك مما يدعو إلى زيادة الاعراض عنها، ويؤدي إلى ضياعها وحرمان أهل الصدق من جلاء قلوبهم، وتمتعهم بشهود أنوار محبوبهم.
ورأيت أيضا أن في ذلك تركًا للنصيحة الواجبة خصوصًا لمن طلبها (تحتَّمت) علىّ إجابة طلبهم، ودخل قوم على يد هذا الفقير في الطريق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدلهم على من يدلهم عليه، وأن لا يجعل لهم حجابًا عمن يقربهم إليه.
ورأيتهم في احتياج إلى معرفة حقيقة الطريق التي ندعوهم إليها، ونعاهدهم على التمسك بها، وفي افتقار إلى علم ما يلزمهم ويتحتم عليهم من الأخلاق والآداب التي تجب عليهم بهذه المعاهدة فإن الغالب إن لم يكن الكل لا يعرفون للطريق معنًى سوى كلام يقرءُونه بألسنتهم يسمى بالأوراد، وانتساب بأفواههم إلى من يأخذون عنه ذلك وهذا غاية الجهل بالطريق حتى صار المنتسبون إليه في بُعْد عن ذوق لذة الطلب لحضرة مولاهم، وتجافٍ عن موارد من عَمَّهم بإحسانه وأولاهم.
فساقني ذلك إلى تأليف هذه الرسالة ليستنير بنور إرشادها المريدون، ويهتدى بها في سلوك طريق الحق الصادقون.
وسميتها (مِصباح الأرواح في سلوك طريق الفتاح) سائلًا الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وسببًا للتمسك بصراطه المستقيم وطريقه القويم، وإلى الله أبرأ من الحول والقوة وعليه اعتمد وبه أستعين (فأقول)

حقيقة الطريقة وأنها لا تكون بغير ما ورد به الشرع:
اعلم أيها المريد أن طريق القوم هو ملازمة الأعمال والأحوال التي يترتب على مداومة العمل بها زوال اشتغال القلب بغير الله تعالى، وصرف نظره عن كل ما عداه حتى يستنير بأنوار تعلقه بالحق واشتغاله به عن جميع الأغيار فيتأهل بذلك إلى دوام شهوده، ومطالعة أنوار معبوده جل شأنه وعز سلطانه.
وهذه الأعمال والأحوال لا يمكن أن يترتب عليها ذلك إلا إذا كانت مما جاءت به الشريعة المطهرة الغراء، فإن الخلق محجوبون عن أن يدركوا بعقولهم ما يوصِّل إليه، ممنوعون عن الدخول لحضرته من غير الأبواب التي فتحها سبحانه وتعالى لخلقه وجعلها طرقًا لمن يريد الوصول إليه، لأن حضرته سبحانه عزيزة رفيعة، حصينة منيعة.
وتلك الأبواب هي الأعمال التي طلبها تعالى من عباده، واختارها للتقرب بها لجنابه، ومعلوم أنه لا يمكن العلم بها إلا من شريعته الغراء، ومنزلته السمحة الحسناء.
فكل ما كان فيها مطلوبًا له محبوبًا منه فهو الذي يمكن المسير به إليه، ويحصل التقرب بفعله لديه، وكل ما كان محرمًا فيها مكروهًا منه لايتأتى به ذلك.
إذ كيف يتصور أن يُدخل لحضرته من غير أبوابها، أم كيف يتوهم أن يتوصَّل إليه مِن طريقٍ منَعَ حضرته مَن تدنَّس باقترابها، فإنه سبحانه وتعالى قد أخبر - وهو أصدق القائلين - بأن من حاد عن شريعته وتجافى عنها فقد ساء مصيره، وأوقعه في دركات البعد عنه مسيره.
فليس بممكن بعد ذلك أن يحصل القرب إليه بأمر جعله تعالى سببًا في البعد منه، وموجبًا للقطيعة عنه، لأن ذلك مغالبة له ولن يغلب الله شيءٌ وهو غالب على كل شيءٍ.

المنهيات والبدع مبعدة عن الله تعالى:
فظهر لك أن كل أمر لم يرد في الشرع تصريحًا أوضمنًا وجميع البدع المخالفة له يستحيل أن تكون طريقًا للحق سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون العمل بها موجبًا للقرب منه عز وجل، وكل داع يدعو الناس إلى التلبس بتلك البدع الخارجة عن دينه القويم فهو إنما يدعوهم إلى البعد عنه تعالى، ويدنيهم من الشيطان الرجيم، ويوقعهم في شرَك الهوى فله في الدنيا خزى وفي الآخرة عذاب عظيم.
ومعنى السير إلى الحق عند أهل الطريق رضى الله تعالى عنهم تخليص القلب من اشتغاله بأحوال هذا العالم وتعلقه بها، وتطهيره من أقذار انهماكه فيها، وتخليته من أن يشتغل بها عن الله تعالى.

الحكمة من التزام الأوراد المأثورة:
ولمّا كانت الروح عاجزة عن انفكاكها من قيود تلك الشواغل لكثرتها وقوة علائقها، وتراكم عوائقها، حتى صارت لا تقدر وحدها على الخلاص منها ولا تقوى بذاتها على الخروج من سجنها اختار القوم الدعاة من أنواع العبادات المطلوبة شرعًا هذه الأوراد التي حتَّمُوها على مريديهم، وأوجبوا عليهم اشتغال ألسنتهم وقلوبهم وجوارحهم بها ليكون لهم من جنس شواغل هذا العالم مايصرفهم للتوجه إليه سبحانه ويساعدهم على الخلاص من الموانع التي تشغلهم عن مراقبته والقواطع التي تحملهم على التعلق بغيره.
فلذلك صارت هذه الأوراد من أهم أصول الطريق وأعظم الأركان فيها، والمطية التي تجاب بها قفارها وفيافيها، ولا يصل للمريد خير إلا باعتناقها ومداومتها، ولا ينال من الطريق نصيبًا إلا بالعكوف عليها ومحالفتها، فإنها مورد القرب والإمداد، ومنهل الإسعاف والإسعاد.
فيا أيها المنتسبون لهذه الطريقة بأفواهكم، المنتمون إليها بدعاويكم وشفاهكم، كيف تُعرضون عن أصل الخيرات و عنه تلهون، وتنأون عن سبيل المَبرَّات وتبتعدون، فكم فرطتم في هذا الأمر وتركتموه، وتجافيتم عن هذا الخير وهجرتموه، مع أن التفريط في شيء منه أصل بعدكم وحرمانكم، والاهمال في أدائه سبب صدِّكم وهجرانكم، فبادروا بالوفاء به فهو طريق النجاح، وانهضوا بأمر الله فيه فإنه سبيل الفوز والفلاح.
(هذا) واعلم أن التمتع بنعمة الشهود والتلذذ بالوصول إلى حضرة الواحد المعبود يستحيل في دار الدنيا حصولهما بجارحة من الجوارح لأنها لاتدرك إلا المحسوسات، ولا تحس إلا بما يماثلها في النعوت والصفات، وقد تنزه سبحانه وتعالى عن ذلك وتقدس قال تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) وإنما الأرواح هي المختصة بتلك النعمة العظمى، والوصول إلى هذا المقام الأرفع الأسمى.
ومعلوم أن الحجب التي تمنع وصول هذه النعمة إليها أمور معنوية، وهي اشتغالها بالأغيار وصرف نظرها إليها حتى تصاب بمصيبة الإعراض عن الله تعالى، فلا بد في زوال تلك الأمور المعنوية التي قامت بها وعرضت لها من فعل روحي يعالج به زوال تلك الأعراض، وترفع به أثقالها عنها لأنه من البديهي لدى كل عاقل أن الحركات اللسانية والأفعال الجسمانية لا تؤثر في تلك الأمور المعنوية ولا تفيد فى رفعها شيئا، بل يتوقف خلاص الروح منها على فرارها من سجنها ومعاناتها لتركها، وذلك يكون بإقبالها على الله تعالى وملاحظتها له ودوام رغبتها فى القرب منه.
فاشتغال الجوارح والأركان بالأوراد مع خلوها عن توجه الروح لا يفيد في تطهير القلب من تلك الأكدار، ولا يحصل به رفع هذه الأستار.
فمن اكتفى في الطريق بمجرد اشتغال لسانه وجوارحه، وأعرض بروحه عن خالقه ومانحه فهو مسكين محروم، مُبعد مذموم.

ما يجب أن يقصده المريد بالأوراد:
وللقوم رضى الله عنهم في معنى توجه الروح الذي لايحصل السير إلى الله إلا به عبارات عالية، فقد ذكر كلٌ منهم ما وصلت إليه همته، ولا شك أن المريد لا يصح أن يُكلّف بأحوال العارفين فإن أعمال الرجال لا تقوم بها الأطفال، وربما كان تكليفه بها سببًا في ضعف همته لما يراه من بُعدها وعسر نيلها، وإنما يُؤمر بأن يقصد بأداء الأوراد إرضاء مولاه سبحانه عنه، واشتغاله بما يحبه طالبًا منه تعالى إنقاذه من كل ما يشغله عن حضرته، معتقدًا أنه تعالى مطلع علي كلّ أمر فيه، عالم بظاهره وخافيه، ملاحظًا افتقاره إليه تعالى في كل أحواله، مستعينًا به على دوام ملاحظته والتوجه إليه، ولْيدُم على ذلك في جميع مدة اشتغاله بالأوراد.
ويجب أن يلاحظ معاني الأوراد على حسب إمكانه، وأن يكون قاصدًا لها كأنه منشئ لما احتوت عليه من الدعوات والمطالب، لا أن يكون كالمخبر الحاكي لكلام سابق، وليحافظ على ذلك في جميع أوراده، وهذا الذي ذكرناه ممكن من كل مريد اتصف بشيء من صدق الطلب للحق سبحانه وتعالى، فمن وسوست له نفسه بصعوبه ذلك عليها فليعلم أنه ليس من طلاب الحق في شيء، وأنه محروم من هذا الطريق.
وممّا عمت به البلوى وعظمت به المصيبة أنك ترى غالب المريدين يحسن الواحد منهم حفظ الورد فإذا أراد الاشتغال به أطلق فيه لسانه وتركه يجري على حروفه ويسير على ألفاظه وأعرض بقلبه عنه، وتركه يرتع في مراتع البعد عن الله، ويجني من الأغيار ثمار البعد عن مولاه، وربما لا يشعر الواحد منهم بشيء من ألفاظ الورد فضلاً عن معناه إلّا بكلمة يرتفع بها صوته، وربما كان لا يشعر بشيء منه أصلًا بل بآخر العدد الذي يعد به صيغه الورد أو الذكر، ومع ذلك يظن أنه من المريدين لله سبحانه وتعالى، الطالبين لقربه ورضوانه، العاكفين على أعتاب كرمه وإحسانه.
حاش لله وحاشا حضرة عزته وكبريائه أن تُهان حتى يصل إليها من يزهد فيها، أو تذل حتى تسعى وراء من يعرض عنها ولا يعتنيها.
ومن العجب أنك ترى الواحد منهم يجود بتوجيه فكره ويسخى بصرف قلبه في أمر لا يفيد في دنياه ولا في آخرته، بل ربما ضره فيهما، وتراه يستلذ صرف جميع أوقاته في مثل ذلك، ومع ذلك يبخل غاية البخل بتوجيه قلبه لحظة إلى جناب مولاه عز وجل، ويَضِنّ بإقبال روحه على طاعة مولاه ويثقل عليه صرف أي وقت في ذلك.
فهل هؤلاء هم المريدون الصادقون؟! نعم مريدون، ولكن لبعدهم عن الله وحرمانهم، صادقون ولكن في انقيادهم لنفوسهم وطاعتهم لشيطانهم.
وهل ذلك هو المقصود من الأوراد؟ كلا، بل المقصود منها إنما هو مساعدة الجوارح للقلب في إقباله على الله تعالى، فإذا تجردت عن ذلك صارت لافائدة لها في تطهير القلب من الشواغل و تنويره بأنوار شهود الحق سبحانه وتعالى ولو أتت كل جارحة من الجوارح بعبادة أهل الأرض والسماء.
نعم لا يليق ترك الأوراد، ولا يجوز التفريط فيها ولو تجردت عن حضور القلب، لأن اشتغال جارحة بالعبادة مع ترك القلب وبقية الجوارح لها خير من ترك الجميع لها، وأحسن من اشتغال القلب وجميع الجوارح بغيرها، ولأنه ببركة المواظبة عليها يحسُن للمريد حاله ويتجمَّل إن شاء الله مآله.
ولكن يحق لك يا من حُرِمتَ من تلك الثمرات، وفاتتك لطائف تلك الهبات أن تنوح أسفًا على نفسك، وتموت أسًى على ضياع مسراتك وأُنسك، بل يحق لك أن يذوب قلبك دموعًا وزفرات، ويسيل حزنًا وتذهب نفسك حسرات، كيف لا وقد صرتَ حليف البعد والحرمان، طريحًا في أوديه الصد والهجران، قتيل الفؤاد بسهام القطيعة، مبعدَ الروح عن سُوح الرحمة الوسيعة.
فبادر يا أخي وتدارك أمرك، فالخطب والله عظيم، وتأمل ما أنت فيه، فالمصاب جليل جسيم.

وجول الاعتناء بالأوراد والمواظبة عليها:
وإذا تمادت نفسك في إعراضها واستعذبت مرارة أوصابها وأمراضها وأهملتَ أنت توجيهها إلى مولاك و تأخرت عن سوقها إلى الإقبال على من خلقك وسواك، فعليك يا أخى بالاعتناء بالأوراد والاهتمام بشأنها والمحافظة على حسن السمت في أثناءها، وأن تقوم بها على الكيفيه التي طلبها أهل الطريق الحق، إذ اشترطوا في تأديتها كيفية مخصوصة، وأن تكون لتأديتها مكانة عندك، وأن تراها ضرورية مقدمة على كل أمر، وأن تلازم الأدب بعد الفراغ منها زمنًا.
وبهذا يرجى لك إن شاء الله تعالى تمرين نفسك على الإقبال على مولاك عز وجل، وإلا فلا خير في وجودك ومحياك.

ولا بأس بأن يتكلم المريد أثناء الورد بما يحتاج له في مصالحه المعاشية، أو أموره العادية، كمؤانسة الضيف، وإدخال السرور على مسلم بقول معروف أو إحسان مألوف.
وليلاحظ أن ذلك مما يحبه الله ويرضاه، ليكون له بهذه النية كالورد المألوف، وليحذر من اللغو والزيادة في ذلك عما تقتضيه المصلحة فإنه اشتغال بغيره جل شأنه وهو أكبر عيوب المريدين، وأقبح نقائص الطالبين، بل هو الموجب لمحوهم من ديوان الطلب للحضره الإلهية، المقتضي لمنعهم عن السير إلى مشاهدة أنواره البهية.

وجوب اداء الأوراد صحيحة:
ومما يلزم التنبيه عليه ويجب الالتفات إليه تصحيح ألفاظ الأوراد والاتيان بها على ما يطابق قانونها الشرعي من مدّ الممدود، وقصر المقصور، وغَنِّ ما تجب فيه الغنة، وتوفية كل كلمة ما تستحقه من ذلك، فإن الإخلال بشيء من تلك الأحكام يؤدي إلى عدم اعتبارها شرعًا وعدم الإثابة عليها.
وقد فشا في المنتسبين للطريق هذا الداء، فترى الواحد منهم يمر على بعض الكلمات وقد أخل بنظامها وقطع أوصالها، ومعلوم أن الأوراد مجموعة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والدعوات المشتملة على أسمائه تعالى، واللحن في شيء من هذه الثلاث محرم بالنصوص الشرعية.

(فتنبه) أيها المريد إلى خطر ذلك، وتفطن لهذه الدسائس والمهالك، والله يتولى هداك، ويصرف عنك شواغل نفسك وهواك.

خطر الشواغل عن الله تعالى ووجوب الخلاص منها:
(واعلم) أن الشواغل عن الله سبحانه وتعالى والدواعي التي تدعو النفس إلى الإعراض عن الحق، والعلائق التي تجذبها إلى التعلق بغيره سبحانه وتعالى؛ قد تكاثرت أنواعها، واختلفت أصولها، وتشعبت فروعها، وخفيت أسبابها، واشتد التباسها، حتى صارت لا يحيط بدقائقها إلا الراسخون في الدين، العارفون بأسرار الشريعة والكتاب المبين.
وقد عسُر على من يريد من الناس الخلاص من تلك العلائق والتخلي عن هذه العوائق معرفتها والعلم بطرق النجاة منها، فاحتاجوا في ذلك إلى أولئك العارفين، واضطروا في سيرهم إلى الله لهؤلاء المرشدين.
وقد اقتضت إراده الحق سبحانه وتعالى أن ارتباط الأرواح ببعضها يوجب لها سريان المزايا الموجودة فيها، وتبادل الغرائز المنطوية عليها، فإنك ترى الصديقَيْن إذا كمُلت محبتهما وقوى ارتباطهما؛ تتوافق ميولهما وطباعهما، وتتشابه نفوسهما، وترى الإنسان أيضاً يتأذَّى بأذية من يرتبط معه بأي رابطة ويُسرُّ لسروره وما ذلك إلا لأن استعداد الروح يقضي عليها بالتّأثُّر بأحوال الروح التي ترتبط بها، ويوجب لها مشاركتها في أطوارها وخواصها ولو كان كلٌ من الروحين مسجونًا في سجن بشريته، مقيدًا بقيود حجابه وطبيعته، وهذا أمر يشهد له العيان ويؤيده الحسّ والوجدان.

وجوب اتخاذ المريد الشيخ المرشد:
فلذلك جعل أهل الطريق نفع الله بهم اتخاذ الشيخ المرشد والارتباط بروحه المتعلقه بالله المتمتعة بدوام شهوده ورضاه من أعظم ما يحتاج إليه مريد السير إلى الله تعالى، وأهم الأصول التي يتوقف عليها سلوكه في هذا الطريق إلى مولاه، لأنه إذا كان الارتباط بالروح المحجوبة يوجب الموافقة لميولها والتطبع بطباعها فالارتباط بالروح التي أُطلقت من قيودها وصار ديْدَنها الاقبال على معبودها وطبيعتها العكوف على أبواب رضوانه، وسليقتها الفرار عما يجرّ إلى بعده وحرمانه، يقتضي سريان تلك الصفات إليها، ويستلزم إفاضة هذه المزايا عليها، بل هذه الروح المطلقة أولى بسريان أحوالها إلى الروح المتعلقة بها من تلك الروح المحجوبة، لأن هذه قد خلصت من عقالها، وتلك ضعيفه مكبّلة بأوحالها.
ولكن حصول مزايا روح الشيخ ووصول أحواله إلى المريد يتوقف على قوة ارتباطه به ودوام تعلقه به، وهذا الارتباط لا يكون إلا بأمر يحمله عليه وهو اعتقاد كماله، وعلوم مقامه، واستحضار أن روحه هى الحبل الذي يصل بسبب تعلقه به إلى خلاصه من الشواغل المانعة له عن مولاه عز وجل، وملاحظة أن صلاحه فيما يقتضيه نظره له، لأنه أدرى بمرضه وما يفيد فيه، وأعلمُ بما يطهر قلبه ولحضرة التقريب يدنيه.

وجوب تعلق المريد بشيخه:
ويجب على المريد مع شيخه أن لا يغفل عن ملاحظته؛ لأن ذلك بُعدٌ عن التعلق بروحه في ذلك الوقت وهو خسارة عليه لأنه محتاج في كل آن الي الالتصاق بروحه لتسري إليه أخلاقها وسجاياها المنقذة له من أوحال شواغله التي تعوقه عن مطلوبه، وتعطله عن الوصول إلى شهود محبوبه.
ويجرّ ذلك إلى آداب تجب عليه في حق شيخه وفي ذكرها تطويل يخرج بنا عن الغرض من هذه العجالة، وقد ذكرها شيخنا العلامة ناصر الطريق، وترجمان أهل التحقيق، الأستاذ سيدي (أحمد الطاهر) حفظه الله تعالى ونفعنا به في كتابه (مطية السالك) وشرحه (الكشف الرباني على المورد الرحماني) فليراجعها من شاء والله الموفق. (هذا)

أخطار تصيب بعض المريدين:
ومن الأحوال التي أصابت قلوب المريدين فأمرضتها، والخطوب التي ألمّت بأرواحهم فصدّتها عن سبيل الله وأبعدتها، أمور استخفوا بارتكابها وهي من أعظم المهلكات، واستسهلوا فعلها وهي من أصعب المتلفات، فقد فرطوا في أهم أصول الطريق وأفرطوا في ارتكاب ضدها، حتى أدى بهم ذلك إلى البعد عن الله تعالى، وأوقعهم في دركات الإعراض عن جنابه.
فقد أكد أهل الطريق رضى الله عنهم في طلب (محبة الإخوان وارتباط أرواحهم بعضها ببعض، واتحاد قلوبهم بالألفة والصفاء بينهم) وأفاضت في الحث على ذلك آيات الكتاب العزيز، ونادت به أحاديث سيد الأحباب، وتطابقت في ذلك أقوال القوم وعباراتهم، وتواترت في معاني أسراره رموزهم وإشاراتهم.
وفي الحقيقة إن محبة الإخوان هي مجمع الأسرار، وتآلفهم في الله هو منبع اللطائف والأنوار، فقد اقتضت حكمته تعالى أن يجعل في جميع المؤمنين مزايا، ويودع فيهم كرائم الأخلاق والسجايا، وفرّقها بينهم فكلٌ منهم أخذ منها ما قُسم له بالقسمة الأزلية، واستولى على نصيبه الذي أعطته له يد الإرادة الإلهية، فربما وُجِدَت في الفاسق مزية لا توجد في أهل الصلاح والتقوى، وربما وُجِد في الصالح التقيّ ما لا يوجد في الأصلح الأتقى، وذلك أمر مشهود، مُتعارف معهود.
فإذا كان المريد مرتبطًا بإخوانه محبًا لهم صفِىَّ الفؤاد لهم سرى إلى روحه من مزاياهم المتفرقة ووصل إليه من رياض إيمانهم المونقة مايقتضيه حكم الارتباط الروحاني، وصار الواحد منهم كأنه سائر بأرواح جميع إخوانه، فإذا تخلصت روح أحدهم من بعض الشواغل التي تشغلها عن الله وتناءت عنه أحسّت جميع الأرواح المرتبطة بثِقَلِه، ونفرت منه وحاولت بعدها عنه، وإذا تحلّت روح واحد منهم بأمر يوجب لها رضوان الله سبحانه وتعالى والقرب منه رأيت أرواح الباقين ترفرف بأجنحتها عليه، وتنجذب بكليتها إليه، وتحن إلى التحلي بحليته، وتتشوق إلى ارتقائها لمعانقته، حتى تتخلص من العوائق المانعة لها عنه.
ولذلك قال بعض أهل الطريق إن الإرتباط بالأخ الصالح يحصل به السير إلى الله تعالى كما يحصل باتخاذ المرشد، والمحبة بين المريدين هي الميزان الذي يعرف به الواحد منهم مقدار اتصاله بالطريق، والقسطاس الذي يعلم به صحة دعواه الإرادة وكذبها، فإن الأرواح ترتبط بأى علاقة وتميل لأدنى مناسبة.
وانظر إلى الأُخوّة الجسمانية مثلًا فإنك تراها ضعيفة المناسبة بالنسبة لهذه، وذلك لأن ارتباط الأخوة في الأصل ليس لها ارتباط خاص عن بقية الأرواح فإن الكل صادر من مصدر واحد، وأجسام الإخوة أيضًا متغايرة متباينة لا ترتبط بعضها مع بعض برابطة، ولكن لمّا كانت هذه الأجسام محلًا للأرواح وكان أصلها وهو الأب واحدا صار لبعض تلك الأرواح تعلق ببعضها لمناسبة أن أجسامها التي تسكن فيها وإن كانت متباينة لكن أصلها الذي تسبب في وجودها ونشأت عنه متحد.
ومع ضعف هذه الرابطة تراها أوجبت أحكامًا واقتضت أمورًا كثيرة كالغيرة على كل أمر يضر بالأخ، والشفقة عليه مما يعتريه من الأمراض، والحزن لما يلحقه من أي أذى، والرغبة في كل مايسُرّه، والاهتمام بكل مايؤدي إلى سلامته، إلى غير ذلك من الأحوال المشاهدة، فكيف يكون الحال إذا كان الروحان يجتمعان مباشرة في أصل واحد، ويرتبطان معًا بحبل واحد، ويتحدان معًا في طريق واحدة، ويستقيان من مشرب واحد!!؟ لا شك أن ميلهما يكون فوق ذلك الميل بطاقات، وارتباطهما يعلو على ذلك بدرجات وطبقات.
فإذا ضعُف الميل لأحد من إخوانك في الطريق، أو رأيت كراهة لمن ارتكب منهم أمرًا غير لائق، أو رأيت عدم اهتمامٍ من نفسك بما يصيبه من المضار، أو رأيت عدم غمٍ على تلبُّسه بما يوجب تأُخُّره في الطريق، أو رأيت نفورَ نفسكَ ممن آذاك منهم؛ فاعلم أن ذلك لضعف ارتباطك بالطريق وتخلخل وصلتك بها، فإنها لو كانت قويةً صحيحةً لكنت تحزن على أيّ أذى يلحق بهم، وتغتم من حصول أي أمر يخالف المطلوب منهم، وكنت تقدّم النصيحة لمن يخطيء منهم بغاية الرفق واللين، وتستجلب رضاءهم عنك بكل ما يمكن، وترى نفسك مضطرًا لصفاء قلوبهم عليك، صفوحًا لهم عن كل ما يمَسّ جانبك منهم من أذيتهم لك.
وذلك فضلًا عن كونه مما تقتضيه تلك الرابطة وتستلزمه، فإن المريد الصادق في الطلب مَن يقدّم محبوبه على نفسه بل لا يلتفت إليها في جانبه.
وإذا كان إيمان أخيك وسيره في طريق الوصول إلى الله لم يوازنا عندك أذيَّته لك، ولم تشفع له لديك وصلته بأهل طريق الحقّ عز وجل؛ فكيف تكون صادقًا في طلب الله وأنت مفضّلٌ لنفسك عليه؟! أم كيف تكون مريدًا للخلاص من نفسك وأنت تقدّم ما تشتهيه وتميل إليه؟! بل الأولى بك أن تُسمَّى مريدَ النفس والشيطان، طالبَ البعد والخسران.
فيا أيها المريد إن الرابطة التي تدَّعِيها، والأُخوَّة التي تزعم أنك من أهليها، ليست بأمر تستره شقشقة اللسان، بل هو نورٌ تظهر أحكامه خارج العيان.
أين أحكام رابطتك الروحانية؟! وأين دلائل وصلتك الربانية؟! قد بينَّا لك أن لارتباط الأجسام مع ضَعفِه مقتضيات يقتضيها، فيلزم أن يكون لارتباط الأرواح أمور تبعد أطرافها ومراميها، ولم تقم في هذه ببعض ما تقتضيه تلك الرابطة، وأصبحتْ أحكامها هينة ساقطة، فإذا رأيت من أخيك أدنى شيء أو ظننت ذلك نابذته بالعداوة وجاهرته، وجافيته بالكراهة ونافرته، متناسيًا ما بينكما من رابطة المؤاخاة، متغافلًا عما بينكما من المعاهدة في طريق الله، لا شك أن ذلك علامة حرمانك من الطريق، ودليل على عدم دخولك في هذا الفريق، وماهي إلا إشارة الحرمان رُفعَت على رأسك، وراية الشقاء والخذلان ترفرف على صرح نفسك.

قال صاحب القدم الراسخ، والمجد الثابت الباذخ، شيخنا الأخ في الله تعالى صاحب المفاخر والمعالى الشيخ محمد الغزالي في كتاب له بعد كلام يخاطب فيه إخوانه ما نصه: "فما بالكم تعاملون بعض معاملة الأجانب وإنتم إخوان، وتتصاحبون مصاحبة الأباعد وأنتم صِنوان، جعلتم الأُخُوَّة تحت حكم النفوس والأغراض، فإن توافقا وإلا فالتنافر والصدّ والإعراض، فمنكم من ينطوي من جهة أخيه على غلٍ من غير سبب، بل لكونه لم يوافق غرضًا ما، وإن كان ذلك الأخ أعلم عالم، وأفضل فاضل، ممن يجب احترامه على كل مسلم". إلى أن قال: "ومنكم من يزعمون أن إخوانهم أعز عليهم من أنفسهم، ومتى تعامل اثنان في أمر دنيوي تحاسبا على الفتيل، وإن رأى كلاهما أو أحدهما أنه مغدور في شيء يسير تنافرا وكثُر بينهما القال والقيل، وجاءت الدعوى بعكس الدليل، فلا ترى للأخُوَّةِ حكمًا يقف تجاه ذلك الشيء القليل، وحينئذ يتضح العزيز من الذليل" أ هـ.
فيامن جمعتكم في الله جامعة الإخاء، ومدت لكم يد العناية حبل الود والصفاء، كيف تقابلون النعمة بكفرانها!؟ ولا تقومون بواجب حمدها وشكرانها؟! واعلموا أنكم قد عاهدتم الله تعالى وأشهدتموه، وآتيتموه المواثيق وأعطيتموه، على أن تسيروا إلى حضرته العليّة، وتتمسّكوا بطريقه السمحة المرضيّة، فلا يصح بعد ذلك أن تُخِلُّوا بشيء مما عاهدتموه عليه.
ولا يجوز أن تفَرِّطوا في أمر تعلمون أنه مطلوبٌ لديه، وإلا كنتم مع المنتقم الجبار متلاعبين، ولعهوده ومواثيقه خائنين، فاملئوا بالله قلوبكم من الصفاء والمحبة، وأَتْرِعُوها لإخوانكم بالولاء والمودة، فإن التمسك بالطريق لايكون مادمت قلوبكم متجافية عن بعضها، وعلى قدر صفائكم لبعضكم يكون تمسككم بها.

وجوب قبول النصح والارشاد:
(ويجب) على كل واحد منكم أن يجعل في صدره متسعا لقبول النصيحة ممن يلقيها إليه، وليعلم أن ذلك من أجلِّ نعم الله عليه، فإنه قد جعل له من بصائر إخوانه ما يقوم مقام بصيرته التي احتجبت بحجاب الإعراض عن الله تعالى، وهذا من خفي الألطاف به، وجميل الرفق والرأفة والإسعاف لقلبه، فلا يصح أن يقابل العبد وخصوصا إذا كان مريدا مقبلا على الله سبحانه هذه النعمة العظيمة بالاستخفاف بها أو النفور ممن ساقها الله على يديه، بل يجب عليه أن يحمد الله عليها، ويشكر من كان السبب فيها، ويستزيده من أمثالها ليكون قلبه مستأنسا بدوام ما يرد إليه من رحمات الحق وجميل هباته التي منها ما يصل إليه من النصائح على أيدي إخوانه، وبذلك يجعل كل واحد من إخوانه بابا لنزول تلك الرحمات الإلهية، ومنفذا لوصول تلك الرقائق الرحمانية.
ولا يصح له أن يرد نصيحة لكونه لم يفعل الأمر الذي نصح لأجله، فضلا عن أن يجافي من ينصحه فيه كما هو الواقع من كثير من المحرومين، بل يلزمه أن يتقبلها بقبول حسن متأدبا مع الناصح له أثناء نصحه تأدبا مع الحق سبحانه وتعالى فإنه هو الموُلِى في الحقيقة لنعمتها، المتفضل في الأصل بإفاضتها.

ولو علم المريد عظم هذه النعمة عليه وعرف مقدار توصيل هذه المنحة إليه لما وسعه أن يتلقاها ممن يوصلها إليه إلا بأكمل الحالات، ولا يسمعها منه إلا بأجمل الصفات والهيئات، فإنها ساعة تصل فيها من الله جلائل النعم إليه، وتتنزل فيها من الحق لطائف الرحمة عليه.
ولكن مما يحزن الفؤاد، وتتفتت به الأكباد، أن غالب المريدين تضيق صدورهم حرجا، وتظهر رعونتهم عندما تصل إليهم هذه النعمة على يد أحد من الناس، وربما جعلوها سببا في الجفاء لمن ينصحهم، وموجبا للنفور منه خصوصا إذا كان المنصوح لم يفعل الأمر الذي نصح فيه، فيرى أن الناصح أهانه واستخف به، وظن فيه ما لا يصح أن يظن به، مع أنه على أي حال لم يخرج الناصح عن كونه أوصل للمنصوح نعمة ساقه الله لتوصيلها له، وهي ذخيرة له إن لم تظهر له فائدتها في الحال، فهي نور له يستضيء به في الاستقبال.
ومن العجب أن يكون المريد طالبا للخلاص من نفسه وإذا أرشده أحد إلى ترك بعض رغائبها والتخلي عن شيء من نقائصها، تراه يغار على اعتقاد الخطأ منها ويغضب من نسبتها للنقص، فليت شعري كيف يكون معتقدا أن جميع أحوالها عيوب ونقائص تعوقه عن مولاه ويريد أن يتخلص منها بدخوله في الطريق، ومع ذلك لا يرضى بأن يُنهى عن بعض تلك الأحوال والعيوب، لاشك أن ذلك تناقض في أقواله، وتعارض في أحواله.
والمصيبة العظمى أن الذين يوفقهم الله تعالى للمواظبة على الأوراد أو يمن الله عليهم بتعلم ما يحتاجون إليه من العلم يرون أن نصيحتهم أمر منكر لا يليق بهم ويملئون صدورهم بالغل لمن يواجههم بالنصيحة كأنهم استغنوا بما عندهم عن نعم الحق سبحانه وتعالى التي من أجلها نصح إخوانهم لهم، مع أنهم أولى الناس بقبولها وأجدر بأن يروا أنفسهم أنهم أحوج الخلق إليها استزادة من منح الله عليهم.
فهؤلاء المبعدون حقا عن الصواب، المحرومون عن سلوك المنهج المستطاب، فقد جعلوا نعمة الله عليهم سبب حرمانهم، وصيروا رحمته لهم سبب جحدهم وكفرانهم، فإنا لله وإنا له راجعون.

ما يجب على الناصح:
(ويجب) على الناصح في حال نصحه لأحد من إخوانه أن يكون كالأخ الذي يقدم الدواء لأخيه المريض، فكما أنه تحمله على ذلك شفقته على أخيه وحنانه عليه ورغبته في شفائه من مرضه ومحبته لأن يكون متمتعا في جميع أوقاته بنعمة الصحة، وإذا رأى منه كراهة لاستعمال الدواء وتضررا من مشقته لا ينفر منه لذلك بل تزداد عليه رأفته ويجتهد في الرفق به، وإذا امتنع منه أو لم يفد في شفائه ازداد همه وحزنه.
كذلك يلزم المريد أن ينصح أخاه شفقة عليه ورأفة به من أمراض روحه، وإذا رأى منه كراهة لنصيحته لا ينفر منه بل يجتهد في الرفق به، وإذا امتنع عن العمل بها ولم تفد فيه لا يجافيه ويكرهه لذلك، بل يزداد همه وحزنه على عدم شفائه من ذلك المرض الذي ألم بروحه.
وقد غلب على بعض المريدين حجاب رعونتهم حتى تناسوا هذا الأصل المهم وصاروا لا يتناصحون في أمر ارتكبوه، ولا يتناهون عن منكر فعلوه، وترى الواحد منهم إذا رأى من أخيه شيئا لا ينصحه فيه خشية أن يتغير خاطره ويؤدي إلى المخاصمة بينهما، وإذا حسن به الظن ونصحه غضب ذلك المنصوح وأخذته العزة بالإثم واشتدت کراهته لأخيه فأداهم ذلك إلى الإنكار على بعضهم في غيبتهم وامتلاء قلوبهم بالأحقاد وإشرابها باعتقاد النقائص في بعض، وجرتهم هذه الأحوال إلى تزكية نفوسهم ورضائهم عنها، وهو هدم لأساس الدخول في هذه الطريق، وخروج عن الانتساب إليها بالكلية، فإن مبناها على الفرار من أحوال النفس والكراهة لرغائبها الموجبة للبعد عن الله عز وجل، فكيف يكون المريد طالبا للخلاص من أحواله وهو راض بها.
فتنبه أيها المريد إلى هذه الأخطار العظيمة، وتفطن لهذه المتالف الجسيمة، فإن ذلك ابتعاد عن حضرة ذي الجلال والإكرام، واستخفاف بطريق القدوس السلام، وهل يكفيك من الطريق مجرد دعوي دخولها، مع هدمك لأول أركانها وأول أصولها.

الحث على الاجتماع على الأوراد:
(ومما يتأكد) في هذا الطريق ويتعين على المريدين اجتماعهم على الأوراد فإنه وحده ورد مستقل بل هو عند القوم من أعظم أورادهم، وبحر فيوضاتهم وإمدادهم.
فمن أتى بالورد منفردا فقد فاته ورد آخر وهو اجتماعه مع إخوانه عليه، فإن فيه أسرار تعز معرفتها، وأنوارا تعلو عن إدراك الأكثر حقيقتها.
وقد ورد في الشريعة الغراء الحث على الاجتماع على العبادة، وأن الصلاة في الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وهو أدعى إلى اهتمام النفس وتوجيهها إلى الإقبال على الله سبحانه تعالى من قراءة الورد منفردا لما توجبه مشاركة الناس في الفعل من الائتناس به والتقوية عليه، وعدم الفتور منه، فربما بلغ المريد في قراءته للورد مع الجماعة مرة ما لا يبلغه باشتغاله به منفردا مرارا عديدة.
ولذلك حض أهل الطريق عليه، وحذروا من الاستخفاف به وتركه، حتى ذكروا من ضمن الأسباب التي يطرد بها الشيخ المريد عدم حضوره مجلس الأوراد.
وقد جنت على بعض المريدين يد الجهالة، وأعماهم عن طريق السعادة حجاب الضلالة فاستخفوا باجتماعهم على الأوراد وفرطوا فيه بل استبدلوه باجتماعهم على لهوهم، وتعوضوا عنه اشتغالهم بلغوهم، واستعذبت نفوسهم ذلك، واستلذت حرمانهم من نفحات العلي المالك فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(قال) العلامة الشيخ محمد الغزالي في كتابه المتقدم ذكره بعد كلام في الاجتماع على الأوراد ما نصه: فلعلك تتيقظ وتقلع عما ابتلي به الكثيرون، يتركون الجمع على الأوراد والاشتغال بالرواتب المكلفين بها ويذهبون حيث يتوارون عن إخوانهم ويشتغلون باللغو واللعب والضحك وعندما يحضرون مع الناس أو مع بعض إخوانهم ممن ليس على شاكلتهم يظهرون التأدب والوقار والسكينة وحسن السمت وجميع الأحوال الكاذبة، ومتى انفردوا بعضهم رجعوا لما كانوا عليه فيصيرون لعبة الشيطان ويضيعون ثمرة الاجتماع ويقعون في مهلكة الرياء والتصنع والنفاق فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ا هـ.

حث المريدين على الاجتماع فيما بينهم:
(واعلم) أن أهل الطريق جعلوا اجتماع المريدين بعضهم ببعض من الأمور المطلوبة، وذلك ليقتبسوا من بعضهم مكارم الأخلاق ونفائس الشيم وليهمم بعضهم بعضا في الإقبال على مولاهم، ويتعاونوا على الاشتغال بطاعته والقيام بما يقرب إليه، ولبذل النصيحة بينهم فيما يحصل من الهفوات ليتعلم جاهلهم ويتنبه للصواب عارفهم، فإن المريد لا يمكن أن يحيط بمعرفة ما يعوقه في هذه الطريق، وربما دست عليه نفسه ذلك في أمر من الخيرات.
ومن عادة النفوس استخفافها بوقوع الأمور التي لا تُنهى عنها ولو علمت أنها خطا كما هو مشاهد، فهي في غاية الاحتياج لمن ينبهها على ذلك.
ويترتب أيضا على اجتماع المريدين تأكيد رابطة المحبة بينهم، وتوثيق عروة المودة والصفاء بين قلوبهم، وقد أدخل الشيطان على بعض المنتسبين للطريق في هذا الأمر المطلوب ما صرفهم به عن طريق طلب الحق عز وجل إلى تلذذ النفس برغباتها وائتناسها بشهواتها فجعلهم يرغبون في الاجتماع ويألفونه لكن لتسلية نفوسهم بما تميل إليه من اللغو والخوض فيما لا يعنيهم وغير ذلك حتى صارت اجتماعات غالبهم شيطانية، وآلت إلى حرمانهم من هذه الطريقة المرضية، ووجد الشيطان بينهم مجالا في تلك الاجتماعات فصارت محرومة من الثمرات والخيرات، وأورثتهم النفور بينهم والإساءة والأذية لبعضهم والبذاءة، نسأل الله أن ينشلهم من هذه الأوحال وينقذهم من هذه الأهوال.

خطر الاستهانة بساعات الرحمة الإلهية:
ومما استهانوا به من الخيرات وفرطوا فيه وأهملوه (التعرض لساعات الرحمات الإلهية، والاعتناء بالأوراد الخاصة بها) كالقيام في السحر مع أنه هو الوقت الذي يتميز فيه الطالبون للحق سبحانه وتعالى عن غيرهم من المعرضين عن الإقبال على أبوابه عز وجل، وترى الواحد منهم يبخل بقيام تلك الساعة ويعز عليه صرفها في تحصيل رضوان الحق وقربه، ويقضيها في راحة نفسه معرضا عن مولاه في أجمل ساعات إحسانه، مبتعدا عنه في أعظم أوقات تقريبه ورضوانه، فكيف يدعي طلب الجليل من يعرض عن أعتاب حضرته، وكيف يخطب وصل الجميل من لا يتذلل على أعتاب عزته، بل ذلك دليل على كذب دعواه، وحجة على بطلان ما ادعاه.

ما يجب على المريدين:
(ويجب) على المريدين في تأديتهم للأوراد أن لا يخرجوا بها عما قصده أهل هذه الطريق من توجههم إلى الله سبحانه وتعالى واشتغالهم بما يقربهم إليه، وقد سرى في بعض المريدين هذا المرض حتى أوقعهم في خطأ كبير بل هو من أعظم القواطع عن الله عز وجل، فقد جعل القوم من أورادهم (اجتماع مريديهم على ذكر الله جل شأنه) لتشرق على قلوبهم أنواره، وتلوح لأرواحهم أسراره، (وجعلوه لازما منهم بعد العشاء) ليحصل به ركنان من أركان الطريق وهما السهر والذكر.
ولما اعترى الضعف همم الطالبين أباحوا فيه اتخاذ منشد يُسمعهم من كلام القوم ما يثير هممهم ويقوي عزائمهم ويرغبهم في الاشتغال بذكر الله سبحانه وتعالى ويحببهم فيه.

وقد أداهم الجهل بحقيقة الطريق والاستخفاف بشأنها الى أن المريدين يقصدون من مجالس الذكر سماع نغمات المنشد وترويح نفوسهم بترنمه، وقصروا أنظارهم عن ذلك جاعلين الذكر واجتماعهم عليه آلة لتحصيل هذا الغرض القبيح، ويمتدحون فيما بينهم مجلس الذكر إذا استحسنوا فيه نغمات المنشد، وينتقصونه إذا لم يروا فيه ذلك، وربما تركوه بالمرة حتى صار هذا الركن العظيم مستهانا عند الناس، يعدونه من زينات الأفراح، والأمور العادية التي يكمل بها نظام مجتمعاتهم.
وما كفاهم هذا الحرمان وذلك الضلال والخسران حتى صار بعض المنشدين يقصدون بهذا الأمر الشريف ويريدون بهذا الركن الرفيع المنيف الحصول على شيء من حطام الدنيا، فتراهم يرفعون أصواتهم بكلام ظاهره استمداد من صاحب الغيرة العظمى على هذه الطريق صلى الله عليه وسلم، وباطنه أذية لحضرته، وتقطيع لأوصال محجته.
وينادون بأقوال ظاهرها الحث على محبة الله تعالى وباطنها محاربة لجنابه المقدس، وإهانة لذكره جل شأنه بجعله آلة لتحصيل أقذار الدنيا وأوساخها، وصار الذاكرون يظنون أنفسهم مقبلين على الله سبحانه وتعالى، مع أنهم واقفون في صفوف المحاربين لحضرته العلية، ويحسبون أنهم واقفون على أبواب عز مولاهم، وهم في الحقيقة عاكفون على أعتاب أهل الدنيا ويتوهمون أنهم متعززون بعز ذي الجلال، مع أنهم متسببون في إهانة أسمائه ومتسمون بذلة السؤال.
فكم سطت جنود الباطل على هذه الطريق واعتدت.
وكم صالت عليها جيوش الفساد واحتشدت.
وكم فرط المنتسبون إليها حتى استضعفها الناس واستذلوها.
وكم أفسد المنتمون إليها حتى ذلت في عيون الخلق واستهانوها.
وكم كثر الجهال فيها وأكثروا فيها الفساد.
وكم حُرمت ممن يمد لها حبل الصفاء والوداد.
قد أصبحت منكسة الأعلام بعد أن كانت مرفوعة، وأمست مهدومة الحصون بعد أن كانت عزيزة ممنوعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، قد اشتروا والله بذكر ربهم ثمنا قليلا، وابتعدوا عن طريق الصواب وضلوا سبيلا.
فيا أيها المريدون لا يليق أن تضعوا جواهر الطريق حيث يهان شرفها، ولا يصح أن تلقوا كؤسها حيث تستذل لطائفها وتحفها، بل تجب المحافظة على إعلاء منارها، وتلزم المواظبة على تحصين رياضها وديارها.
فلا تفعلوا شيئا من أمورها إلا إذا كان معززا شريفا، ولا تقدموا عليه إلا إذا كان معظما منيفا، فإنه يخشى على من تسبب في هتك حرماتها أن يعاقب بنار البعد والحرمان، ويجازي بعذاب الطرد والهجران.

واجبات على المريد:
(ومما يجب) على المريد ويتأكد عليه التباعد عن مجامع البدع الحاصلة في هذا الزمن، والفرار بقلبه وقالبه عن الأماكن المحتوية عليها فإنها خروج عن الشرع الشريف ومحاربة لله تعالى ومعاداة لحبيبه صلى الله عليه وسلم، ووجود المريد فيها إعانة على هدم الإسلام، فهي محل لنزول سخطه ومرمي لسهام غضبه وانتقامه عز وجل.
والطالب يجب عليه أن يتحرى رحمات الحق ويتهافت على أبواب كرمه وإحسانه، ويتعرض لسحائب تقريبه ورضوانه، ولا تأخذه في هجر تلك البدع لومة لائم، إذ كيف يراعي المريد لوم اللائمين ولا يخشى من سطوة رب العالمين.

(هذا) ومن أهم الأصول وأعلاها، وأرفعها عند القوم وأغلاها المحافظة على التخلق بالأخلاق العالية المرضية، والتأدب بالآداب السامية السنية بل ذلك روح حياة هذه الطريقة وباب رياضها الزاهرة الأنيقة، وهو الأمر الذي يتوقف عليه سلوك السالكين، والشرط الذي لابد منه للسائرين، لأنه إذا كان القرب من أكابر أهل الدنيا والوصول إليهم لا ينال إلا بتهذيب الأخلاق والتحلي بأجمل الآداب والتخلي عن كل أمر لا يليق بشرف مقامهم، فالسائرون في طريق الحق المقبلون على الله بقلوبهم الطالبون الدخول بها لحضرة شهوده أولى بأن يتحلوا بأجمل حلية، ويتزينوا بأحسن خلعة لملاقاة مولاهم سبحانه وتعالى، وأجدر بأن ينزهوا أرواحهم عن كل ما يدنسها لتكون قابلة لإفاضة أنوار الحق وأسراره عليها، وإلا فلا يليق أن توضع نفائس الجواهر في أماكن القاذورات، ولا يصح أن يجالس الملوك من يزاحم الكلاب على الأوساخ والنجاسات.

آداب مهمة:
(ومن أهم هذه الآداب) وأعظمها احترام الخلق وتوقيرهم، وقد فرط فيه المنتسبون لهذه الطريق خصوصا أهل العلم منهم، حتى أنك تراهم يستخفون بكل من لا يساوهم في درجتهم ويرون أنفسهم غير مكلفين بالأدب مع أحد، بل ربما ظنوا أن في ذلك نقص لهم، ويجعلون لأنفسهم مقاما لم يجعله الله لغير أنبيائه، فينزهونها عن الجهل بأي حكم من الأحكام، ويرفعونها عن نسبة الخطأ في أي فهم من الأفهام، ويأنفون ممن يعارضهم في شيء من ذلك ويعدونه حطاً من مقامهم.

ومع ذلك يرون أن تحليهم بالأدب مع خلق الله جل شأنه ولو استحقوا ذلك بشرفهم وفضلهم تضييع لثمرة علمهم، فقد جهلوا أن المقصود من العلم أن يتعلم العبد ما يحسن به معاملة مولاه سبحانه وتعالى، ولم يعلموا أن أجمل ما يعامل به الحق الأدب مع خلقه واحترامهم وتوقيرهم وذلك هو الضلال البعيد.
فيلزم المريد أن لا يحتقر أحدا ممن يؤمن بالله ورسوله وليعظمه ويحترمه اقتداء بتعظيم الحق سبحانه وتعالى له بأن جعله محلا لنور الإيمان به واصطفاه لأن يكون من أتباع حبيبه صلى الله عليه وسلم، فيكون تعظيمه له تعظيما لله ورسوله، وإهانته واحتقاره عدم اعتناء بجنابه تعالى وحضرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتجرءا على فعل ما يغضب الله ورسوله.
فيا أيها المريد كيف تقبل على مولاك وأنت متلبس بما يكرهه من الأحوال؟
وكيف تدخل حمى حضرته المنزهة وأنت متدنس بقبيح الأقذار والأوحال؟
ويا أيها السائر إلى الله كيف تفعل (وأنت على أعتابه) ما يغضبه عليك؟
وكيف تتجرأ (وأنت ببابه) على ما يجر سخطه عليك؟
وكيف تسير في طريق المنتقم الجبار (وأنت متحمل بأثقال السيئات والأوزار؟)
لا شك أن ذلك يوجب إبعادك وطردك، ويقتضي حرمانك وصدك، ويؤدي إلى انتقامه منك بخيبتك وخذلانك، وعقابه لك بهجرانك وخسرانك.
فعليك يا أخي بتعظيم خلقه واحترامهم فإنهم عزيزون عليه، واحذر من احتقارهم وأذيتهم فإنها كبيرة لديه، فإن من لم يحسن الأدب مع خليقته جدير بأن يبعد ويطرد من حضرته، ومن عجز عن التأدب مع أمثاله فكيف يتأدب مع من تقدس في كبريائه وجلاله.
فيجب على المريد أن لا يراه الحق سبحانه وتعالي محتقرا لأحد من خلقه مسيئا للأدب معهم فإن ذلك دليل على عدم صلاحه الدخول الحضرة الإلهية، وعلامة على عدم لياقته للوصول إلى مشاهدة أنوار الذات القدسية، وليتجنب كل أمر يؤدي إلى تضرر أحد من الناس ما لم يكن محتماً عليه.
(ومما دسه) الشيطان على غالب المريدين ليفسد عليهم قلوبهم أنهم يحسبون أن الأدب أمر مرجعه إلى الظواهر فقط، ومع ذلك أدخل عليهم أنه لا يطلب منهم مع غير إخوانهم في الطريق، مع أن القيام بهذا الركن وهو التأدب مع الخلق إنما هو عاملة الله سبحانه وتعالى وتقرب إلى حضرته العلية، وهو سبحانه وتعالى إنما ينظر إلى القلوب، وهو علام الغيوب، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، مطلع على كل أمر ظاهر ومستور، وهو مطلوب له مع كل خلقه، فكما يجب مع الأخوان يجب مع غيرهم، فإنهم وإن لم يكونوا متآخين بالأخوة الخاصة فلهم أخوة عظيمة الشأن مؤسسة الأركان قد عقدها سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بينهم بالإيمان، فمن استهان بها فقد عرض نفسه للوبال، وأوقعها في مهاوي الخزي والنكال.
(ويجب) على المريد أن يتباعد عن صغائر الأمور وسفاسفها، ويجانب دنايا الأحوال وخسائسها، فإذا كان أكابر طلاب الدنيا يتنزهون عن الأمور الخسيسة، والحركات الخفيفة محافظة على لياقتهم لمجالسة الأمراء وتقربهم إلى السلاطين والكبراء، فلا شك أن من يريد التقرب لذي العزة والجبروت، والوصول إلى ذي الملك والملكوت أولى بالتباعد عن تلك الأحوال، وأجدر بترك ما لا يليق من الأقوال والأفعال.
(ويلزمه) أن يكون عفيف النفس، عالي الهمة، عظيم المروءة، محافظا على عرضه كمحافظته على فرضه، وأن يكون بعيدا عن التهافت على الدنيا والترامي على أهلها والتطلع لما في أيديهم، فإن هذه الطريق تأبى لعزتها، وتمتنع لمكانتها عن أن تمد حبلها لمن ألفت نفوسهم ذلك، فإن ذلك مع كونه طلبا للدنيا وتعليقا للقلب بها فهي دناءة لا تليق بمن يطلب قرب الله سبحانه وتعالى ويسير إلى حضرة شهوده، وهو في الحقيقة أعز من طلاب الدنيا وأولى بالإقدام عليه والتذلل لديه، فإذا كان يرى أهلها أعزاء بها فليكن عزه بطلب مولاه وانتسابه له أرفع وأعلى، وارتشاف كؤوس إقباله على الله ألذ لديه وأحلى.
(وبالجملة) فيجب على المريد أن يكون على أعلى الصفات، متخلقا بأحسن النعوت والسمات، فإنه بمعاهدته على التمسك بالطريق الحق صارت تُعد عليه حركاته، وتحسب عليه خواطره وسكناته، وصار كل أمر يقتضيه طلب الحق سبحانه وتعالى يتحتم عليه، ويلزمه القيام به والنهوض إليه، وكل أمر ينافي ذلك يجب عليه الفرار منه ويتحتم عليه تركه ويتأكد التباعد عنه، وإلا كان كاذبا على الله ورسوله في معاهدته على السير في هذه الطريق الحقة، ظالما لها بدعواه الانتماء إليها، خائنا لها ولأهلها بتلاعبه بها بعدما ائتمنوه على الدخول فيها، وقبلوه في ضمن مريديها وطالبيها، فيخشى عليه أن يحرم من ثمرات التقريب والإسعاد، ويقضي عليه بعذاب الطرد والإبعاد.

والله المسئول أن يفتح للطالبين أبواب التوفيق والهداية، ويمنح قلوبهم رقائق اللطف والرعاية، إنه سميع قريب كريم مجيب، والحمد لله في البدء والختام والصلاة والسلام على مصدر الإمداد والإكرام سيدنا محمد رسول الله تعالى الى جميع الأنام، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين و سائر الآل والصحابة والتابعين على الدوام.
وقد تم جمعها في يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر شوال سنة عشرين بعد ثلثمائة وألف من هجرة خير الأنام عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام.

 

عن الكاتب

ناجح رسلان

التعليقات



الإشراقات المحمدية تحت اشراف فضيلة العلامة الشيخ فراج يعقوب حفظه الله

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

الإشراقات المحمدية